فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( كِتَاب الْعِلْم . بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم . بَاب فَضْل الْعِلْم )
هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَكَرِيمَة وَغَيْرهمَا . وَفِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ تَقْدِيم الْبَسْمَلَة , وَقَدْ قَدَّمْنَا تَوْجِيه ذَلِكَ فِي كِتَاب الْإِيمَان . وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ لَفْظ بَاب وَلَا فِي رِوَايَة رَفِيقه لَفْظ كِتَاب الْعِلْم .
( فَائِدَة ) :
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : بَدَأَ الْمُصَنِّف بِالنَّظَرِ فِي فَضْل الْعِلْم قَبْل النَّظَر فِي حَقِيقَته , وَذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ فِي نِهَايَة الْوُضُوح فَلَا يَحْتَاج إِلَى تَعْرِيف , أَوْ لِأَنَّ النَّظَر فِي حَقَائِق الْأَشْيَاء لَيْسَ مِنْ فَنّ الْكِتَاب , وَكُلّ مِنْ الْقَدْرَيْنِ ظَاهِر ; لِأَنَّ الْبُخَارِيّ لَمْ يَضَع كِتَابَة لِحُدُودِ الْحَقَائِق وَتَصَوُّرهَا , بَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى أَسَالِيب الْعَرَب الْقَدِيمَة , فَإِنَّهُمْ يَبْدَءُونَ بِفَضِيلَةِ الْمَطْلُوب لِلتَّشْوِيقِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَتْ حَقِيقَته مَكْشُوفَة مَعْلُومَة . وَقَدْ أَنْكَرَ اِبْن الْعَرَبِيّ فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ عَلَى مَنْ تَصَدَّى لِتَعْرِيفِ الْعِلْم وَقَالَ : هُوَ أَبْيَن مِنْ أَنْ يُبَيَّن . قُلْت : وَهَذِهِ طَرِيقَة الْغَزَالِيّ وَشَيْخه الْإِمَام أَنَّ الْعِلْم لَا يُحَدّ لِوُضُوحِهِ أَوْ لِعُسْرِهِ .
قَوْله : ( وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ) ضَبَطْنَاهُ فِي الْأُصُول بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى كِتَاب أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَاف .
قَوْله : ( يَرْفَع اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم دَرَجَات )
قِيلَ فِي تَفْسِيرهَا : يَرْفَع اللَّه الْمُؤْمِن الْعَالِم عَلَى الْمُؤْمِن غَيْر الْعَالِم . وَرِفْعَة الدَّرَجَات تَدُلّ عَلَى الْفَضْل , إِذْ الْمُرَاد بِهِ كَثْرَة الثَّوَاب , وَبِهَا تَرْتَفِع الدَّرَجَات , وَرِفْعَتهَا تَشْمَل الْمَعْنَوِيَّة فِي الدُّنْيَا بِعُلُوِّ الْمَنْزِلَة وَحُسْن الصِّيت , وَالْحِسِّيَّة فِي الْآخِرَة بِعُلُوِّ الْمَنْزِلَة فِي الْجَنَّة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ نَافِع بْن عَبْد الْحَارِث الْخُزَاعِيّ - وَكَانَ عَامِل عُمَر عَلَى مَكَّة - أَنَّهُ لَقِيَهُ بِعُسْفَانَ فَقَالَ لَهُ : مَنْ اِسْتَخْلَفْت ؟ فَقَالَ : اِسْتَخْلَفْت اِبْن أَبْزَى مَوْلًى لَنَا . فَقَالَ عُمَر : اِسْتَخْلَفْت مَوْلًى ؟ قَالَ : إِنَّهُ قَارِئ لِكِتَابِ اللَّه , عَالِم بِالْفَرَائِضِ . فَقَالَ عُمَر : أَمَا إِنَّ نَبِيّكُمْ قَدْ قَالَ " إِنَّ اللَّه يَرْفَع بِهَذَا الْكِتَاب أَقْوَامًا وَيَضَع بِهِ آخَرِينَ " . وَعَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي قَوْله تَعَالَى ( نَرْفَع دَرَجَات مَنْ نَشَاء ) قَالَ بِالْعِلْمِ .
قَوْله : ( وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : رَبّ زِدْنِي عِلْمًا )
وَاضِح الدَّلَالَة فِي فَضْل الْعِلْم ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَأْمُر نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الِازْدِيَاد مِنْ شَيْء إِلَّا مِنْ الْعِلْم , وَالْمُرَاد بِالْعِلْمِ الْعِلْم الشَّرْعِيّ الَّذِي يُفِيد مَعْرِفَة مَا يَجِب عَلَى الْمُكَلَّف مِنْ أَمْر عِبَادَاته وَمُعَامَلَاته , وَالْعِلْم بِاَللَّهِ وَصِفَاته , وَمَا يَجِب لَهُ مِنْ الْقِيَام بِأَمْرِهِ , وَتَنْزِيهه عَنْ النَّقَائِض , وَمَدَار ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِير وَالْحَدِيث وَالْفِقْه , وَقَدْ ضَرَبَ هَذَا الْجَامِع الصَّحِيح فِي كُلّ مِنْ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة بِنَصِيبٍ , فَرَضِيَ اللَّه عَنْ مُصَنِّفه , وَأَعَانَنَا عَلَى مَا تَصَدَّيْنَا لَهُ مِنْ تَوْضِيحه بِمَنِّهِ وَكَرَمه . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُورِد الْمُصَنِّف فِي هَذَا الْبَاب شَيْئًا مِنْ الْحَدِيث ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُون اِكْتَفَى بِالْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ , وَإِمَّا بَيَّضَ لَهُ لِيُلْحِق فِيهِ مَا يُنَاسِبهُ فَلَمْ يَتَيَسَّر , وَإِمَّا أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث اِبْن عُمَر الْآتِي بَعْد بَاب رَفْع الْعِلْم وَيَكُون وَضْعه هُنَاكَ مِنْ تَصَرُّف بَعْض الرُّوَاة , وَفِيهِ نَظَر عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَنَقَلَ الْكَرْمَانِيُّ عَنْ بَعْض أَهْل الشَّام أَنَّ الْبُخَارِيّ بَوَّبَ الْأَبْوَاب وَتَرْجَمَ التَّرَاجِم وَكَتَبَ الْأَحَادِيث وَرُبَّمَا بَيَّضَ لِبَعْضِهَا لِيُلْحِقهُ . وَعَنْ بَعْض أَهْل الْعِرَاق أَنَّهُ تَعَمَّدَ بَعْد التَّرْجَمَة عَدَم إِيرَاد الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُت فِيهِ شَيْء عِنْده عَلَى شَرْطه . قُلْت : وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّ هَذَا مَحَلّه حَيْثُ لَا يُورِد فِيهِ آيَة أَوْ أَثَرًا . أَمَّا إِذَا أَوْرَدَ آيَة أَوْ أَثَرًا فَهُوَ إِشَارَة مِنْهُ إِلَى مَا وَرَدَ فِي تَفْسِير تِلْكَ الْآيَة , وَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت فِيهِ شَيْء عَلَى شَرْطه , وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَة كَافٍ فِي الْبَاب , وَإِلَى أَنَّ الْأَثَر الْوَارِد فِي ذَلِكَ يَقْوَى بِهِ طَرِيق الْمَرْفُوع وَإِنْ لَمْ يَصِل فِي الْقُوَّة إِلَى شَرْطه . وَالْأَحَادِيث فِي فَضْل الْعِلْم كَثِيرَة , صَحَّحَ مُسْلِم مِنْهَا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَفَعَهُ " مَنْ اِلْتَمَسَ طَرِيقًا يَلْتَمِس فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّه لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة " . وَلَمْ يُخَرِّجهُ الْبُخَارِيّ لِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْأَعْمَش , وَالرَّاجِح أَنَّهُ بَيْنه وَبَيْن أَبِي صَالِح فِيهِ وَاسِطَة . وَاَللَّه أَعْلَم .